الإمام أبو حنيفة والتصوف
إن التصوف هو صفاء الأخلاق وإصلاح الذات، وتقوية العلاقة بالله تعالى، والتفكير في الآخرة، والتنقية من الرذائل بتزيين الحياة بالزهد والتقوى، والتحلي بصفات الورع في جميع العبادات، وتجنب المنكرات. وإن اتصاف المرء بهذه الصفات الصالحة الخالصة يفسر في الأحاديث المباركة بكلمة الإحسان.
متى بدأ استخدام مصطلح التصوف؟
في عصر الصحابة وُجدت لروح الصوفية وواقعيتها، أي الزهد والتقوى، والإنابة إلى الله، والتواضع والخضوع، إلخ، صفات روحية وباطنية، ولكن هذه الكلمة لم تستخدم حتى وقت الصحابة، وقد ورد أن الصوفية مجرد اسم في العصر الحاضر ليس له واقع، وفي الماضي كان هناك واقع ليس له اسم (محدد)، أي في زمن الصحابة والسلف الصالحين، كلمة الصوفي لم يكن هناك، لكن صفاته الحقيقية كانت حاضرة في ذلك الوقت والآن هذا الاسم موجود ولكن معناه غير موجود؛ ففي تلك الأيام لم يكن الناس يطالبون بها رغم علمهم بقضايا الصوفية ؛ ولكن الآن هناك ادعاء ، ولكن هناك نقص في المعرفة بأمور الصوفية. (کشف المحجوب 74)
يتضح من كلام الشيخ هجويري أن حقيقة الصوفية كانت موجودة في ذلك الوقت، وقد كان للناس سمات مثل الزهد والتقوى والتواضع والخضوع والتأمل في الآخرة والتخوف من الله، كما كتب مولانا جامي في نفحات الأنفس: "إن أول من أطلق عليه لقب الصوفي هو أبو هاشم المتوفى عام 150 هـ . وبني أول دير صوفي على تل في رام الله بفلسطين لرفاقه." (نفحات الأنفس 31)
فأطلق اسم أول صوفي على أبي هاشم الكوفي الذي ولد في الكوفة وقضى معظم حياته في سوريا وتوفيت عام 150 هـ ، وكان أول من مدح وشرح أفكار التصوف هو ذو النون المصري تلميذ الإمام مالك وأول من جمع ونشر التصوف هو جنيد البغدادي رضي الله عنه.
ان هناك نفوس قد عميت عن رؤية النور، وتجاهلت حقائق الإسلام، فالى هؤلاء وإلى كل ينكر بحقيقة التصوف نكتب، كي يدركوا أثر التصوف وضرورته لإحياء القلوب وتهذيب النفوس، وكي يطلعوا على ثمرات التصوف ونتائجه في انتشار الإسلام في مختلف الديار وشتى الأمصار.
الإمام أبو حنيفة والتصوف
كما أوضحنا أن حقيقة الصوفية كانت موجودة في زمن الصحابة ، لكنها لم تكن اسماً واستُخدمت الكلمة لأول مرة لأبي هاشم عام 150 هـ ، فالعثور على كلمة الصوفية مع الإمام أن يكون عملاً لا داعي له ولا طائل من ورائه، إلا أن حياة الإمام كانت مليئة بواقع الصوفية ، وجوهر الصوفية وفضيلة الإحسان. لم يكن السلوك التعريفي في زمن الصحابة والتابعين، لكن الشيء الحقيقي موجود هناك، لذلك كان سلوك الإمام أبي حنيفة نفس نوع السلوك في ذلك الوقت أي الزهد و التقوى والخلق، والإنابة إلى الله ، وكثرة العبادة، والورع ، فكل هذه الصفات موجودة بكثرة في سيرة الإمام أبي حنيفة. فصفات الشريعة والطريقة التي توجد في حياة الإمام أبي حنيفة، أذكرها بإيجاز.
كثرة العبادة
هناك روايات كثيرة بالنسبة للإمام ابي حنيفة توصف فيها عبادته وقيامه وورعه وسمات إحسانه، فنذكر هنا بعضا منها، وهي عبرة ونصيحة لنا جميعاً.
1 ... كان الإمام يختم 60 مصحفًا في شهر رمضان المبارك في يوم واحد وفي ليلة واحدة (تاريخ بغداد 13/355)
2 ... يقول الإمام زفر إنني ذات مرة رأيت الإمام أنه قضى الليل كله في الصلاة على هذه الآية الواحدة (بل الساعة موعدہم والساعة أدہی وأمر) (تاريخ بغداد 13/356)
3... يقول محارب بن دثار: لم أر أكثر يقظة في الليل من أبي حنيفة.
4... يقول أبو عاصم نبيل: سمي الإمام بالمسمار بسبب كثرة صلاته وعباداته (تاريخ بغداد 13/352).
5... يقول سفيان بن عيينة: لم يأت إلى مكة في أيام الحج أكثر صلاة من الإمام أبي حنيفة.
6... يقول أسد بن عمر: إن الإمام أدى صلاة الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة، وغالبًا ما كان يختم القرآن كاملا في ركعة واحدة ، وقد أيد ابن المبارك هذه الرواية أيضًا.
7... يقول أبو زايدة إنني ذات مرة صليت العشاء مع الإمام في مسجده، وعندما غادر الجميع جلست على جانب واحد وقام الإمام بنية الصلاة، وعندما وصل الآية الكريمة (فمن الله علينا ووقانا من عذاب السموم) ظل يرددها حتى صلاة الفجر. (التاريخ) بغداد 13/355)
8...يقول أبو مطيع: كنا في مكة، وكلما ذهبنا إلى الطواف ليلا كنا نرى أبا حنيفة وسفيان الثوري في حالة الطواف.
الزہد والتقوی
يقول يحيى بن سعيد قطان: "كنا نجلس في مجلس الإمام أبي حنيفة ونستمع إليه، وكلما نظرنا إليه نفهم من وجهه أنه من الذين يخشون الله" (تاريخ بغداد 13/351)
قال عبد الله بن المبارك: أتيت إلى الكوفة فسألت أهل الكوفة: من هم أتقياء؟ فقال الناس: أبو حنيفة وروى نفسه: "لم أر أحداً أكثر تقوى من الإمام أبي حنيفة، مع أنه امتحن بالسياط والمال".
يقول مكي بن إبراهيم: "إلتقيت بالكوفيين". لكني لم أر أحداً أكثر تقوى من الإمام أبي حنيفة. (تاريخ بغداد 13/356)
أرسل الإمام أبو حنيفة صرة من القماش إلى حفص بن عبد الرحمن ، فقال إن هناك عيبًا في قسم كذا وكذا ، وعندما تبيعه ، صِف العيب. باع حفص بن عبد الرحمن الثوب ونسي أن يذكر العيب فلما علم الإمام انزعج كثيرا وأعطى ثمن الثوب كله صدقة.
البيعة والمصاحبة
في باب الصوفية أثر كبير للبيعة والمجالسة ، فإذا لم تتحقق فربما لن يتحقق شيء ، وبسبب هذه المصاحبة بلغ الصحابة القمة الأولى من الكمال، بحكم هذه الرفقة بلغ الصحابي الجليل أبو بكر الصديق مكانة الصدق. وبفضل هذه الرفقة، وصل الصحابي أبو ذر إلى مرتبة الفناء. ففي الحقيقة أن الرفقة لها تأثير كبير في تغيير الوضع وتدريب الأخلاق. ولد الإمام أبو حنيفة في نفس الوقت المبارك (خير القرن) عام 80 هـ ونشأ فيه، وتوفي في نفس الفترة في القرن الثاني، لذلك كانت رفقة الصحابة الأجلة ولقاءهم وصحبة التابعين الكبار واجتماعهم قد ملأت حياة الإمام أبي حنيفة بهذه الصفات المقدسة من الزهد والتقوى ووفرة العبادة والورع وسمات الإحسان.
الإمام أبو حنيفة بصحبة الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه
يقول الشيخ داتا غنج علي الهجويري أن الإمام أبا حنيفة هو خليفة الإمام جعفر الصادق في الطريقة. حقق الإمام مراحل السلوك، وقضى عامين في صحبة الإمام جعفر الصادق، ثم قال: "لولا السنتان لهلك النعمان"، أي لو لم أبق في خدمة الإمام جعفر صادق لمدة سنتين لما فزت بالإصلاح الداخلي. وكتب مؤلف "هبة الحنفية" أن والد الإمام وافته المنية ، وكان الإمام صغيرا جدا في ذلك الوقت فتزوجت والدته من الإمام جعفر الصادق، وبهذه الطريقة أتيحت للإمام الفرصة للتربية تحت رعاية الإمام جعفر صادق والحصول على المعرفة الربانية منه (هبة الحنفية ص 271)
موقف الإمام أبي حنيفة
أما ما ينقل عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه في التصوف فليس هو بأقل من ذلك. ذكرصاحب "النصرة النبوية" وهكذا صاحب كتاب "أهل الفتوحات والأذواق" أن الإمام رحمه الله كان محباً للصوفية محترماً لمكانتهم. فساروا على نهجه، وجمعوا بين الشريعة والحقيقة، لينفع الله بعلمهم، كما نفع بإِمامهم الأعظم، الإِمام الكبير، معدن التقوى والورع الإمام أبي حنيفة رحمه الله.
الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى (المتوفى 150 هـ)
نقل الفقيه الحنفي صاحب الدر المختار: أن أبا علي الدقاق رحمه الله تعالى قال: "أنا أخذت هذه الطريقة من أبي القاسم النصر، وقال أبو القاسم: أنا أخذتها من الشبلي، وهو من السري السقطي، وهو من معروف الكرخي، وهو من داود الطائي، وهو أخذ العلم والطريقة من أبي حنيفة رضي الله عنه، وكل منهم أثنى عليه وأقر بفضله..." ثم قال صاحب الدر المختار معلقا: " ألم يكن لك أسوة حسنة في هؤلاء السادات الكبار ؟ وهم أئمة هذه الطريقة وأرباب الشريعة والطريقة ؟ ومن بعدهم في هذا الأمر فلهم تبع، وكل من خالف ما اعتمدوه مردود مبتدع"
فالإمام الكبير أبو حنيفة رحمه الله تعالى، يعطي الطريقة لأمثال هؤلاء الأكابر من الأولياء والصالحين من الصوفية !". ومن هذا نعلم أن الأئمة المجتهدين والعلماء العاملين هم الصوفية حقيقة.
يقول ابن عابدين رحمه الله تعالى ،في حاشيته متحدثا عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى، تعليقا على كلام صاحب الدر المختار: "هو فارس هذا الميدان، فان مبنى علم الحقيقة على العلم والعمل وتصفية النفس، وقد وصفه بذلك عامة السلف، فقال أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في حق الإمام أبي حنيفة: "إنه كان من العلم والورع والزهد وإيثار الآخرة بمحل لا يدركه أحد، وقد ضرب بالسياط". وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: "ليس أحد أحق من أن يقتدى به من الإمام أبي حنيفة، لأنه كان إماما تقيا نقيا ورعا عالما فقيها، كشف العلم كشفا لم يكشفه أحد ببصر وفهم وفطنة وتقى". وقال الثوري لمن قال له: "جئت من عند أبي حنيفة: لقد جئت من عند أعبد أهل الأرض." (حاشية ابن عابدين، ج1، ص43)
الإعداد:الدكتور سراج أحمد المصباحي
الباحث بالجامعة الملية الإسلامية